بقلم: عماد توماس
ما الذي يدفع بعض من الجماهير تخرج عن بكرة أبيها لتكسر وتحرق متاجر وبيوت الأقباط كما شاهدنا وسمعنا وقرأنا في ديروط بمحافظة أسيوط وفرشوط والكوم الأحمر بمحافظة قنا؟!
وما الذي يدفع نفس هذه الجماهير تحتشد لتشجع المنتخب المصري في مباراة كرة قدم؟
دافع طائفي بغيض ينتج عنه سرقة ونهب وحرق وقتل ودافع وطني جليل ينتج عن انتماء وحب للوطن. ما سر هذا التناقض المريب بين هاتين الحالتين؟!!
مواطنون لا رعايا
الدولة المدنية التي تعترف بحقوق وواجبات المواطنة الحقيقية لا يوجد بها رعايا بل مواطنون لهم كافة الحقوق وعليهم نفس الواجبات، ولأن مجتمعاتنا العربية خرجت من رحم البيئة الزراعية والصحراوية، فلا عجب أن ينتشر بها حتى الآن مهنة الرعي، فترى راعي الغنم يسحب قطيع من الأغنام وراءه، يحركهم بعصاه ويوجههم بعكازه، وما أسهل على الجماهير العربية أن يحركها ويوجهها عميد معهد ديني أو رجل دين أو برنامجًا تلفزيونيًا، وما أسهل أن تحشد الجماهير وتدفعهم باسم الله فلا غرابة أن تجد مجموعة من الصبية وهم يكسرون ويحرقون متاجر المسيحيين في "فرشوط" ويهتفون بصوت عال "الله أكبر"، ففي مجتمع "الرعية" من السهل أن تقود الجماهير حيث تريد، فهم مغيبون لا حول ولا قوة لهم، مجرد آلة أو دمية يحركها "الراعي" حيثما يريد!!
يُعرّف جوستاف لوبون مصطلح "الجماهير" في كتابه "سيكولوجية الجماهير" بأنها تجمع لمجموعة من الأفراد، مهما اختلفت هويتهم القومية أو جنسيتهم أو مهنتهم، مهما كانت المصادفة التي جمعتهم، لكن وجهة النظر النفسية ترى أن هذا التجمع يمكن أن تنطمس فيه الخصائص الفردية للبشر ضمن الخصائص الجماعية وتذوب فيها.
ذوبان شخصية الفرد في الجماعة
يخبرنا "لوبون" أننا نعيش في عصر الجماهير، ومن أهم صفات هذا العصر هو ذوبان شخصية الفرد في الجماعة، فمشاعر الفرد وسلوكياته تتجه نحو سلوك الجماعة، فتجد الفرد يحتمي في الجماعة "الجماهير" فتعطيه قوة دافعة للتمرد والغضب، فلا نتعجب إذن عندما نرى مجموعة هائلة تحتشد للهجوم على كنيسة أو متجر أو منزل، فليس الفرد شجاعًا في ذاته ولن يقدر بمفرده على القيام بهذا الإثم، لكن احتماءه في الجماهير تدفعه ليكون فارسًا مغوار للهجوم على الآخر، فهذه الروح الجماعية المكتسبة من الجماهير تختلف لو كان الفرد معزولاً، فاكتساب الفرد لبعض الحيل اللاشعورية في إطار الجماعة تختلف لو كان منعزلاً بمفردة، ما يفعله الفرد من أفعال إجرامية مع الجماعة قد يندم عليها أو لا يقبلها مطلقًا في حالة فرادته.
الشائعات والتحريض
من ضمن ما يدفع الجماهير للغضب والتظاهر، نشر الشائعات والتحريض من قبل الرعاة "القادة"، فما أسهل ترويج شائعة عن حرق الأقباط لأحد المساجد -كما حدث في فرشوط- أو ترويج شائعة مقتل ثمانية جزائريين في القاهرة، فيندفع على أثرها الجماهير الغاضبة لتحطم كل ما تراه أعينها من ممتكلات الأقباط في فرشوط، وممتلكات المصريين في الجزائر، فما أسهل انتشار "العدوى النفسية" التي تدفع جموع الجماهير لفعل جماعي عقابي ضد الآخرين.
والعلاقة بين الجمهور والقائد أو الزعيم يصفها لوبون بأنها ذات صبغة دينية، فالمحرك الغالب هو الدين، فالهتافات الدينية التي تصاحب أي اعتداء جماهيري خير شاهد على النزعة الدينية وراء كل هجوم واعتداء.
فالمعركة الأخيرة بين مشجعي المنتخبين المصري والجزائري -برغم كونهما بلدين عربيين- إلا إن الدين غلب على معظمها والتي استغلتها بعض وسائل الإعلام المحرضة، فتجد منتخب يصفه البعض بمنتخب الساجدين، الذي يحرص على قراءة "القرآن" ولا يفوت فرض من فروض الصلاة، والمنتخب الآخر لا يألو جهدًا في إثبات تدينه تارة بصورة نشرتها وسائل الإعلام وهم يصلون جماعة، أو تسريب أنباء عن إن اللاعبين سيدخلون أرض الملعب وفي آذانهم سماعات لسماع القرآن الكريم حتى يمتصوا حماس الجماهير المصرية. وفي ذلك يقول لوبون "إن عاطفة الجماهير، سواء أُسقطت على الإله الذي لا يُرى، أو على صنم معبود، أو على بطل مؤله أو على فكرة سياسية، تبقى دائمًا ذات جوهر ديني".
وهذا الجوهر والمرجعية الدينية يفسر لنا مدى تعصب الجماهير، وقناعتها بامتلاك الحقيقة المطلقة ورفضها للتعايش المشترك مع الآخر، وتصديقها للشائعات بدون محاولة البحث عن الحقيقة، وبالتالي لا تتشكك الجماهير المندفعة عاطفيًا في الاستماع لصوت العقل والتوقف عن حالة "الهمجية" في اندفاعها، فعقائد الجماهير تتشكل من خلال نشر الشائعات وترويجها والتحريض على الآخر.
الرادع الغائب
من ضمن الدوافع التي تدفع الجماهير لحالة "الهمجية" هو معرفتها المسبقة بعدم وجود رادع حقيقي لها، ففي وسط احتماء الفرد وسط الجماعة يصعب تحديد المسؤولية الفردية، ويُصبح الإتهام عامًا بلا صاحب، وفي المجتمعات القبلية يرتكن الفرد إلى الجلسات العرفية التي تبرئ المذنب، أو يرتكن الفرد إلى قدرة "الزعيم" أو القائد للجماهير في تخليصه من حالة "الهمجية" التي مارسها.
وأبسط دليل على ذلك هو عدم وجود رادع أمني لمعظم حالات الاعتداء على الأقباط في صعيد مصر، فالجلسات العرفية حاضرة والتسويات والتنازلات متوافرة.
حتى الوقفة السلمية التي قامت بها بعض الجماهير المصرية أمام السفارة الجزائرية، والتي تحولت إلى اعتداءات مرفوضة ضد المواطنين ورجال الأمن، ورغم القبض المؤقت على بعض الشباب إلا إن سُرعان ما تم الإفراج عنهم، فلو لم يكن هؤلاء الأفراد على علم بعدم "العقاب" ما كانوا جرءوا على الاعتداء والتظاهر. والسلطة العاقلة تتفهم غضب الجماهير وتعمل على امتصاصه وتتجنب مواجهته.
قائد الجماهير "الزعيم"
الزعيم وحده قادر على تحويل دفة الجماهير من فعل الشر إلى الخير، من الاعتداء الطائفي إلى الانتماء الوطني، من الاعتداء على الآخر إلى التضامن معه نحو خطر خارجي يهدد أمنهم، فهو صاحب "الكاريزما" المؤثر والمحرك لمشاعر الجماهير، وهو صاحب الكلمات "السحرية" القادرة على تهدئة الجماهير الغاضبة أو إثارتهم بخطبه الرنانة، وهو صاحب الإرادة القوية القادرة على توجيه الجماهير.
الوطنية العائدة
لعل حالة "الوطنية" -التي نتمنى ألا تكون وقتية- التي اجتاحت الجماهير المصرية قبل وأثناء وبعد مباراة الجزائر، هي حالة تعبير تحريضية خيرية نحو الانتماء للوطن ثأرًا للكرامة المصرية، ومثلما رأينا العلم المصري مرفوعًا في معظم شوارع المحروسة، والتي انعكست على الدعوات لاتحاد مشجعي الفرق المصرية المتنافسة -الأهلي والزمالك-، نتمنى أن تنعكس بين أبناء الوطن الواحد -المسلمين والمسيحيين- نحو رفض التعصب والطائفية والشائعات والتحريض وثقافة القطيع.
نقلا عن الاقباط متحدون
No comments:
Post a Comment