عادل جندي
نظن أنه لا يوجد عاقل في مصر كان يتوقع أن يصدر حكم المحكمة الإدارية (١٣ يونيو) بأحقية المدّعي «ماهر المعتصم بالله الجوهري» في تغيير ديانته بالأوراق الرسمية إلي «المسيحية»، التي يقول أنه اعتنقها منذ سنوات طويلة. ليس لنا التعليق على الحكم، ولا تعنينا هنا الحالة الخاصة للمدعي. لكن يبقى السؤال الأهم: «كيف تتعامل حيثيات الحكم مع موضوع "حرية العقيدة" في مصر بصفة عامة» ؟
***تقول الحيثيات: [إن حرية العقيدة ضمن المنظور الدستورى يتعين فهمها فى ضوء أمرين مهمين، أولهما أن جمهورية مصر العربية ليست دولة مدنية تماماً، وإنما هى دولة مدنية ديمقراطية، والإسلام فيها دين الدولة ومبادئ الشرعية الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع وفقاً لحكم المادة "2" من الدستور]وهكذا نجد تحديدا جديدا لهوية الدولة المصرية بصورة لم ينص عليها الدستور أو تقل بها المحكمة الدستورية، مفاده أن مصر «ليست دولة مدنية تماما» (؟) بل هي دولة «مدنية ديمقراطية»؛ وهو مصطلح جديد تُركت لعلماء الفكر السياسي مهمة تفسيره، وفهم العلاقة بينه وبين (انعدام) حرية العقيدة في البلاد، وشرح كيف أن الدول «المدنية» الأخرى في العالم ليست «ديمقراطية»، بينما المحروسة وحدها هي التي تجمع بين الصفتين. ثم تشير الحيثيات إلى «المادة الثانية» الشهيرة، وهي ـ للمرة الألف ـ المفترض أنها موجهة للمشرع وليس للقضاء. إذن فالحيثيات تريد أن تقول باختصار أن حرية العقيدة تخضع، طبقا للدستور، لحكم الشريعة ومعاييرها!! وهكذا أصبح لب الموضوع جليا. وبعدها يأتي عدد من التفاصيل «الصغيرة»:
***أولا: تقول الحيثيات أن [تغيير الديانة ضمن نطاق حرية العقيدة، ولئن كان لا يثير مشكلة فى الدول ذات الطابع المدنى الكامل، فإن الأمر جد مغاير فى مصر لما يترتب عل تغيير الديانة من آثار قانونية مهمة فى مسائل الأسرة كالزواج والطلاق والميراث وهى آثار تختلف حسب الديانة أو الملة].يبدو أن هناك إشكالية أولية تتعلق بما يترتب على تغيير الديانة من «آثار قانونية». لكن الأمر غير واضح (!) لنا: فقوانين الأحوال الشخصية في مصر (باستثناء ما يتعلق مباشرة بالزواج) مبنيةٌ على الشريعة الإسلامية (المذهب الحنفي بالتحديد)، ولذلك لا نفهم ماهية الآثار المترتبة على تغيير الدين والتي قد تعجز القوانين السارية عن معالجتها، خصوصا وأنها لم تعجز حتى الآن عن أي شيء عند التحول من المسيحية للإسلام، فلماذا قد توجد معضلة مستعصية فقط في الحالة العكسية (سواء كانت بين «العائدين» أو «المرتدين» ـ إذا كان هناك فرق بين الفئتين الضالتين)؟
ثانيا: توقعا لما قد يثيره البعض حول التزامات مصر، تقول الحيثيات: [الاتفاقيات الدولية المنظمة للحقوق والحريات ولئن كانت تعد جزءاً لا يتجزأ من النظام القانونى المصرى لدى إبرامها والتصديق عليها ونشرها، إلا أن نفاذها وإعمال كامل مقتضاها مناط بمراعاة ما ورد بها من قيود وضوابط من جهة، وبمدى وحدود الموافقة والتصديق عليها من الدولة من جهة ثانية، وبمضمون ومدى تحفظها على ما تضمنته من أحكام من جهة ثالثة، ولذلك فإن الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التى أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 16/12/1966، والتى وقعت عليها جمهورية مصر العربية فى 4/8/1967] (ليست ملزِمة تماما لأن) [قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 536 لسنة 1981 بالموافقة على الاتفاقية المشار إليها لم يطلق الموافقة بلا قيد أو شرط، وإنما أكد فى المادة 1 منه على أن الموافقة على تلك الاتفاقية الدولية يكون مع الأخذ فى الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها وذلك مع التحفظ بشرط التصديق].إذن، وبصريح العبارة فالشريعة الإسلامية تتعارض مع (بعض) الحقوق التي نصت عليها تلك الاتفاقية، وكذلك فإن الاتفاقات الدولية التي توقعها مصر لا تصلح سوى لشرب نقيعها عند اللزوم. والسؤال هو: هل من حق الدول أن «توقّع» ثم «تلحس توقيعها» في نفس اللحظة بدون تبعات؟
ثالثا: لئلا يسيء البعض الفهم بدون داع، تؤكد الحيثيات على أهمية «حرية العقيدة» [وفقاً للتصور الإسلامى، فى ضوء ما قررته المادة الثانية من الدستور من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، (فقد كانت) حرية الفكر هى الطريق إلى الحق، ومن ثم استبعد الإسلام صور القيود المختلفة عن حرية الفكر (..) وقد أكدت الآيات الكريمة فى مجال حرية الاعتقاد أن الإيمان هداية والاختلاف قضاء وأن جميعه من عند الله]. إذن فهناك «حرية عقيدة» خاصة في ضوء «المادة الثانية» تختلف عن مفهومها في بقية أنحاء العالم تحت «أضواء» مواد دستورية مختلفة!! على أي حال، تحذر الحيثيات من أن [القرآن الكريم لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدا من يريد على طريقة بعض اليهود (..)]. وهكذا بعد اعتبار «حرية العقيدة» تلاعبا بالدين إذا كانت تعني الخروج عن الإسلام، وباعتبار مصر «دولة مدنية ديمقراطية»، لا تتردد الحيثيات في اللجوء إلى آيات قرآنية حول بعض يهود القرن السابع، لتحديد مفاهيم قانونية معاصرة. وهذه هي «المدنية» والديموقراطية وإلا فلا!
رابعا: تنتقل الحيثيات إلى الناحية الإجرائية فتوضح أن [تغيير بيانات خانة الديانة، وفقاً (..) لقانون رقم 143 لسنة 1994 فى شأن الأحوال المدنية ولائحته التنفيذية (..) جعل إجراء التغيير أو التصحيح (..) بناء على أحكام أو وثائق صادرة من جهة الاختصاص (..) والمشرع استوجب مجموعة من الإجراءات والشروط والضوابط والمستندات التى يتعين توافرها حتى تتخذ جهة الإدارة إجراءات إصدار قرار بتغيير الديانة والاسم بشهادة الميلاد وبطاقة تحقيق الشخصية، وهى شروط لا تتعلق بإثبات العقيدة والتى تظل مطلقة بين العبد وربه لا تحتاج لإثبات، ولكنها شروط تتعلق بمقتضيات التنظيم القانونى لإثبات البيانات المحددة بالأوراق الثبوتية للمواطن لترتيب الآثار القانونية للتعالم مع الغير فى العلاقات المتعلقة بمسائل الأسرة كالزواج والطلاق والميراث وهى آثار تختلف حسب الديانة أو الملة (..) بأحد مستندين: إما حكم بتغيير الديانة من المحكمة المختصة، أو وثيقة تغيير ديانة صادرة من جهة الاختصاص].ولمن قد تصور له مخيلته المريضة أن الدولة المصرية تتدخل في علاقة العبد بالرب، تؤكد المحكمة مرة أخرى أن [تغيير الديانة فى مجال حرية العقيدة وعلاقة العبد بربه لا تحتاج لإثبات، ذلك أن الاعتقاد الدينى مسألة نفسية وهى من الأمور التى تبنى الأحكام فيها على الإقرار بظاهر اللسان، والتى لا يسوغ لقاضى الدعوى التطرق إلى بحث جديتها أو بواعثها ودواعيها، بينما تغيير الديانة وفقاً لنظام الدولة وأوضاعها التشريعية وما يتصل بحقوق الغير والآثار المترتبة على التغيير فى بيانات قيود الأحوال المدنية، فهو دوماً فى حاجة إلى إثبات، إذ إنه عمل إرادى يحكمه النظام القانونى المقرر تشريعياً لتغيير الديانة والذى يحدد الجهة المختصة المنوط بها إجراء هذا التعديل وإصدار الشهادات أو الوثائق الرسمية، بما يمثله هذا التغيير من خروج من دين ودخول فى غيره، وفى ضوء ما تسمح به قواعد النظام العام للمجتمع].خلاصة الكلام هي أن الدولة المصرية لا تتدخل إطلاقا في حرية الضمير، وما أحب لقلبها من أن توفر وتكفل وتضمن حرية العقيدة ضمانا كاملا شاملا ومطلقا. لكن العين بصيرة واليد قصيرة، إذ أن الدولة المسكينة لا تستطيع الخروج على الإجراءات والنظم القانونية القائمة. كما أنها لا تستطيع تغييرها، فتلك أمور تخرج عن إرادتها المشلولة!!
خامسا: إضافة لتلك المعوقات الإجرائية اللعينة التي لا فكاك منها، هناك إشكالية خاصة بالنسبة لطائفة الأقباط الأرثوذكس فى مصر. فبينما يعتبر القانون أن [البطريرك الذى يرأس المجلس العمومى لهذه الطائفة هو النائب والممثل القانونى لها دون سواه (..) وللكنيسة ورئاستها وظائف واختصاصات دينية وسدت لهم بمقتضى التشريعات المصرية تتعلق بمسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين من أتباع هذه الطائفة (..) ولها إصدار شهادات تتعلق بالشئون الدينية للمنتمين لطائفة الأقباط الأرثوذكس ومن يغير طائفته من إحداها إلى سواها]، إلا أنها مع شديد الأسف [ليست جهة اختصاص فى اتخاذ أى إجراء من أى نوع لتغيير ديانة المسلم إلى الديانة المسيحية، كما أنها ليست جهة اختصاص فى إصدار أية شهادات بحصول هذا التغيير]. وهكذا فإن القانون لم يجعل الكنيسة (أو غيرها) جهة اختصاص في موضوع التحول للمسيحية. وفي غيبة جهة الاختصاص، يستحيل اعتماد الأوراق وفي غيبة اعتماد الأوراق يستحيل التحول! إذن لا توجد مشكلة!وبالمناسبة، لا نعرف إن كان هناك قانون يجعل «الأزهر» جهة اختصاص في التحول للإسلام، أم إن الأمر «بديهي» لا يحتاج لقوانين. ولماذا لا يوجد مثل هذا القانون بالنسبة لكافة جهات الاختصاص لكافة الأديان؟ أم أن مثل هذا القانون سيتعارض مع المادة الثانية العزيزة ومع «النظام العام» الأعز ؟!
سادسا: توقعا لخبث أصحاب الظنون وافتئات ذوي القلوب المريضة، تعود الحيثيات لتشدد على أن المحكمة [وهى تعلى قيمتى الحق والقانون، (تؤكد) على أن حرية العقيدة لها قدرها من السمو والرفعة بما لا يجوز معه أن تكون محلاً للتلاعب، أو سعياً لتحقيق مآرب دنيا، أو إذكاء لصراع بين الحضارات، أو انتصاراً لديانة على أخرى، أو ضرباً للجذور الراسخة للوحدة الوطنية للبلاد، أو اتجاهاً لإحداث ما سمى "الفوضى الخلاقة" بإحداث فوضى طائفية هدامة].وهنا فمن الواضح أن المخاوف المشار إليها، من تلاعب وسعي للمآرب وإذكاء لصراع الحضارات وضرب للوحدة الوطنية الراسخة وإحداث «الفوضى الخلاقة» الخ الخ، هي أمور لا يمكن أن تحدث إلا عند الخروج «من الإسلام»، وذلك لأن اعتناق الإسلام كان ومازال وسيظل متاحا ومباحا ومشجعا عليه، بدليل أنه لا يؤدي إلى أي من تلك المصائب!***وأخيرا فقد أصابت المحكمة إذ أشارت إلى وجود قصور تشريعى فيما يتعلق بالحماية الفعالة لحرية العقيدة، لذلك فقد [أهابت بالمشرّع أن ينهض إلى تحمل التزاماته التشريعية فى ضوء أن تغيير الدين قد تصاحبه الكثير من الضغوط والإغراءات الداخلية والخارجية، كما قد تصاحبه ظروف نفسية واجتماعية يمر بها طالب التغيير، كما قد ينطوى على التلاعب بالأديان تحقيق أغراض دنيوية دنيا، فاختلاف العقائد حقيقة إنسانية، فضلاً عن كونها مشيئة إلهية] وهو كلام جميل، ولعله يسري في «كل الاتجاهات» وليس في «اتجاه واحد» فقط! إذن فالكرة في ملعب المشرع. وبغض النظر عن القيود «الدراكونية» التي تطالب بها هيئة المحكمة بلا داعٍ، فهل يتحرك «مجلس الشعب» ليقوم بواجبه التشريعي في توضيح الأمور بجلاء حتى لا «يُضطر» القضاءُ إلى اللجوء إلى (المادة الثانية) مباشرة، وحتى يعرف الناس في مصر، ويعرف المجتمع الدولي، رؤوسَهم من أقدمهم في معضلة «الحرية الدينية على الطريقة الشيزوفرانية المصرية»؟وأليس من الأفضل أن ترفع الدولة يدها تماما عن موضوع ديانة المواطنين ولا تذكرها في بطاقة الهوية، أو في أي وثيقة رسمية أخري، بخلاف «شهادة الميلاد»؟ ولعلنا لا نتمحك في «الآثار القانونية» لمعرفة الديانة، فحتى أوائل القرن العشرين لم تكن هناك «بطاقة هوية» ولا حتى «مصلحة أحوال مدنية»، ومع ذلك لم يكن أحد يشتكي من ذلك!
***ختاما: نعرف أن قضية «حرية العقيدة» في حد ذاتها لا تحتل الموقع الأول على قائمة اهتمامات سكان بر مصر الغارقين في المشاكل، لكنها جزء من مجموعة أوسع من الحريات والحقوق والمطالب التائهة أو الضائعة. ولذلك، وبهذه المناسبة: هل للقيادة السياسية ـ جازاها الله كل خير ـ أن تتحرك، قبل كل شيء، لتوضح لنا وللعالم «هوية» نظام الحكم في مصر بالضبط؟ وهل هي «مدنية ثيوقراطية» أم «ملوخية بالمهلبية»؟
guindy@gmail.com
***تقول الحيثيات: [إن حرية العقيدة ضمن المنظور الدستورى يتعين فهمها فى ضوء أمرين مهمين، أولهما أن جمهورية مصر العربية ليست دولة مدنية تماماً، وإنما هى دولة مدنية ديمقراطية، والإسلام فيها دين الدولة ومبادئ الشرعية الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع وفقاً لحكم المادة "2" من الدستور]وهكذا نجد تحديدا جديدا لهوية الدولة المصرية بصورة لم ينص عليها الدستور أو تقل بها المحكمة الدستورية، مفاده أن مصر «ليست دولة مدنية تماما» (؟) بل هي دولة «مدنية ديمقراطية»؛ وهو مصطلح جديد تُركت لعلماء الفكر السياسي مهمة تفسيره، وفهم العلاقة بينه وبين (انعدام) حرية العقيدة في البلاد، وشرح كيف أن الدول «المدنية» الأخرى في العالم ليست «ديمقراطية»، بينما المحروسة وحدها هي التي تجمع بين الصفتين. ثم تشير الحيثيات إلى «المادة الثانية» الشهيرة، وهي ـ للمرة الألف ـ المفترض أنها موجهة للمشرع وليس للقضاء. إذن فالحيثيات تريد أن تقول باختصار أن حرية العقيدة تخضع، طبقا للدستور، لحكم الشريعة ومعاييرها!! وهكذا أصبح لب الموضوع جليا. وبعدها يأتي عدد من التفاصيل «الصغيرة»:
***أولا: تقول الحيثيات أن [تغيير الديانة ضمن نطاق حرية العقيدة، ولئن كان لا يثير مشكلة فى الدول ذات الطابع المدنى الكامل، فإن الأمر جد مغاير فى مصر لما يترتب عل تغيير الديانة من آثار قانونية مهمة فى مسائل الأسرة كالزواج والطلاق والميراث وهى آثار تختلف حسب الديانة أو الملة].يبدو أن هناك إشكالية أولية تتعلق بما يترتب على تغيير الديانة من «آثار قانونية». لكن الأمر غير واضح (!) لنا: فقوانين الأحوال الشخصية في مصر (باستثناء ما يتعلق مباشرة بالزواج) مبنيةٌ على الشريعة الإسلامية (المذهب الحنفي بالتحديد)، ولذلك لا نفهم ماهية الآثار المترتبة على تغيير الدين والتي قد تعجز القوانين السارية عن معالجتها، خصوصا وأنها لم تعجز حتى الآن عن أي شيء عند التحول من المسيحية للإسلام، فلماذا قد توجد معضلة مستعصية فقط في الحالة العكسية (سواء كانت بين «العائدين» أو «المرتدين» ـ إذا كان هناك فرق بين الفئتين الضالتين)؟
ثانيا: توقعا لما قد يثيره البعض حول التزامات مصر، تقول الحيثيات: [الاتفاقيات الدولية المنظمة للحقوق والحريات ولئن كانت تعد جزءاً لا يتجزأ من النظام القانونى المصرى لدى إبرامها والتصديق عليها ونشرها، إلا أن نفاذها وإعمال كامل مقتضاها مناط بمراعاة ما ورد بها من قيود وضوابط من جهة، وبمدى وحدود الموافقة والتصديق عليها من الدولة من جهة ثانية، وبمضمون ومدى تحفظها على ما تضمنته من أحكام من جهة ثالثة، ولذلك فإن الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التى أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 16/12/1966، والتى وقعت عليها جمهورية مصر العربية فى 4/8/1967] (ليست ملزِمة تماما لأن) [قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 536 لسنة 1981 بالموافقة على الاتفاقية المشار إليها لم يطلق الموافقة بلا قيد أو شرط، وإنما أكد فى المادة 1 منه على أن الموافقة على تلك الاتفاقية الدولية يكون مع الأخذ فى الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها وذلك مع التحفظ بشرط التصديق].إذن، وبصريح العبارة فالشريعة الإسلامية تتعارض مع (بعض) الحقوق التي نصت عليها تلك الاتفاقية، وكذلك فإن الاتفاقات الدولية التي توقعها مصر لا تصلح سوى لشرب نقيعها عند اللزوم. والسؤال هو: هل من حق الدول أن «توقّع» ثم «تلحس توقيعها» في نفس اللحظة بدون تبعات؟
ثالثا: لئلا يسيء البعض الفهم بدون داع، تؤكد الحيثيات على أهمية «حرية العقيدة» [وفقاً للتصور الإسلامى، فى ضوء ما قررته المادة الثانية من الدستور من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، (فقد كانت) حرية الفكر هى الطريق إلى الحق، ومن ثم استبعد الإسلام صور القيود المختلفة عن حرية الفكر (..) وقد أكدت الآيات الكريمة فى مجال حرية الاعتقاد أن الإيمان هداية والاختلاف قضاء وأن جميعه من عند الله]. إذن فهناك «حرية عقيدة» خاصة في ضوء «المادة الثانية» تختلف عن مفهومها في بقية أنحاء العالم تحت «أضواء» مواد دستورية مختلفة!! على أي حال، تحذر الحيثيات من أن [القرآن الكريم لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدا من يريد على طريقة بعض اليهود (..)]. وهكذا بعد اعتبار «حرية العقيدة» تلاعبا بالدين إذا كانت تعني الخروج عن الإسلام، وباعتبار مصر «دولة مدنية ديمقراطية»، لا تتردد الحيثيات في اللجوء إلى آيات قرآنية حول بعض يهود القرن السابع، لتحديد مفاهيم قانونية معاصرة. وهذه هي «المدنية» والديموقراطية وإلا فلا!
رابعا: تنتقل الحيثيات إلى الناحية الإجرائية فتوضح أن [تغيير بيانات خانة الديانة، وفقاً (..) لقانون رقم 143 لسنة 1994 فى شأن الأحوال المدنية ولائحته التنفيذية (..) جعل إجراء التغيير أو التصحيح (..) بناء على أحكام أو وثائق صادرة من جهة الاختصاص (..) والمشرع استوجب مجموعة من الإجراءات والشروط والضوابط والمستندات التى يتعين توافرها حتى تتخذ جهة الإدارة إجراءات إصدار قرار بتغيير الديانة والاسم بشهادة الميلاد وبطاقة تحقيق الشخصية، وهى شروط لا تتعلق بإثبات العقيدة والتى تظل مطلقة بين العبد وربه لا تحتاج لإثبات، ولكنها شروط تتعلق بمقتضيات التنظيم القانونى لإثبات البيانات المحددة بالأوراق الثبوتية للمواطن لترتيب الآثار القانونية للتعالم مع الغير فى العلاقات المتعلقة بمسائل الأسرة كالزواج والطلاق والميراث وهى آثار تختلف حسب الديانة أو الملة (..) بأحد مستندين: إما حكم بتغيير الديانة من المحكمة المختصة، أو وثيقة تغيير ديانة صادرة من جهة الاختصاص].ولمن قد تصور له مخيلته المريضة أن الدولة المصرية تتدخل في علاقة العبد بالرب، تؤكد المحكمة مرة أخرى أن [تغيير الديانة فى مجال حرية العقيدة وعلاقة العبد بربه لا تحتاج لإثبات، ذلك أن الاعتقاد الدينى مسألة نفسية وهى من الأمور التى تبنى الأحكام فيها على الإقرار بظاهر اللسان، والتى لا يسوغ لقاضى الدعوى التطرق إلى بحث جديتها أو بواعثها ودواعيها، بينما تغيير الديانة وفقاً لنظام الدولة وأوضاعها التشريعية وما يتصل بحقوق الغير والآثار المترتبة على التغيير فى بيانات قيود الأحوال المدنية، فهو دوماً فى حاجة إلى إثبات، إذ إنه عمل إرادى يحكمه النظام القانونى المقرر تشريعياً لتغيير الديانة والذى يحدد الجهة المختصة المنوط بها إجراء هذا التعديل وإصدار الشهادات أو الوثائق الرسمية، بما يمثله هذا التغيير من خروج من دين ودخول فى غيره، وفى ضوء ما تسمح به قواعد النظام العام للمجتمع].خلاصة الكلام هي أن الدولة المصرية لا تتدخل إطلاقا في حرية الضمير، وما أحب لقلبها من أن توفر وتكفل وتضمن حرية العقيدة ضمانا كاملا شاملا ومطلقا. لكن العين بصيرة واليد قصيرة، إذ أن الدولة المسكينة لا تستطيع الخروج على الإجراءات والنظم القانونية القائمة. كما أنها لا تستطيع تغييرها، فتلك أمور تخرج عن إرادتها المشلولة!!
خامسا: إضافة لتلك المعوقات الإجرائية اللعينة التي لا فكاك منها، هناك إشكالية خاصة بالنسبة لطائفة الأقباط الأرثوذكس فى مصر. فبينما يعتبر القانون أن [البطريرك الذى يرأس المجلس العمومى لهذه الطائفة هو النائب والممثل القانونى لها دون سواه (..) وللكنيسة ورئاستها وظائف واختصاصات دينية وسدت لهم بمقتضى التشريعات المصرية تتعلق بمسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين من أتباع هذه الطائفة (..) ولها إصدار شهادات تتعلق بالشئون الدينية للمنتمين لطائفة الأقباط الأرثوذكس ومن يغير طائفته من إحداها إلى سواها]، إلا أنها مع شديد الأسف [ليست جهة اختصاص فى اتخاذ أى إجراء من أى نوع لتغيير ديانة المسلم إلى الديانة المسيحية، كما أنها ليست جهة اختصاص فى إصدار أية شهادات بحصول هذا التغيير]. وهكذا فإن القانون لم يجعل الكنيسة (أو غيرها) جهة اختصاص في موضوع التحول للمسيحية. وفي غيبة جهة الاختصاص، يستحيل اعتماد الأوراق وفي غيبة اعتماد الأوراق يستحيل التحول! إذن لا توجد مشكلة!وبالمناسبة، لا نعرف إن كان هناك قانون يجعل «الأزهر» جهة اختصاص في التحول للإسلام، أم إن الأمر «بديهي» لا يحتاج لقوانين. ولماذا لا يوجد مثل هذا القانون بالنسبة لكافة جهات الاختصاص لكافة الأديان؟ أم أن مثل هذا القانون سيتعارض مع المادة الثانية العزيزة ومع «النظام العام» الأعز ؟!
سادسا: توقعا لخبث أصحاب الظنون وافتئات ذوي القلوب المريضة، تعود الحيثيات لتشدد على أن المحكمة [وهى تعلى قيمتى الحق والقانون، (تؤكد) على أن حرية العقيدة لها قدرها من السمو والرفعة بما لا يجوز معه أن تكون محلاً للتلاعب، أو سعياً لتحقيق مآرب دنيا، أو إذكاء لصراع بين الحضارات، أو انتصاراً لديانة على أخرى، أو ضرباً للجذور الراسخة للوحدة الوطنية للبلاد، أو اتجاهاً لإحداث ما سمى "الفوضى الخلاقة" بإحداث فوضى طائفية هدامة].وهنا فمن الواضح أن المخاوف المشار إليها، من تلاعب وسعي للمآرب وإذكاء لصراع الحضارات وضرب للوحدة الوطنية الراسخة وإحداث «الفوضى الخلاقة» الخ الخ، هي أمور لا يمكن أن تحدث إلا عند الخروج «من الإسلام»، وذلك لأن اعتناق الإسلام كان ومازال وسيظل متاحا ومباحا ومشجعا عليه، بدليل أنه لا يؤدي إلى أي من تلك المصائب!***وأخيرا فقد أصابت المحكمة إذ أشارت إلى وجود قصور تشريعى فيما يتعلق بالحماية الفعالة لحرية العقيدة، لذلك فقد [أهابت بالمشرّع أن ينهض إلى تحمل التزاماته التشريعية فى ضوء أن تغيير الدين قد تصاحبه الكثير من الضغوط والإغراءات الداخلية والخارجية، كما قد تصاحبه ظروف نفسية واجتماعية يمر بها طالب التغيير، كما قد ينطوى على التلاعب بالأديان تحقيق أغراض دنيوية دنيا، فاختلاف العقائد حقيقة إنسانية، فضلاً عن كونها مشيئة إلهية] وهو كلام جميل، ولعله يسري في «كل الاتجاهات» وليس في «اتجاه واحد» فقط! إذن فالكرة في ملعب المشرع. وبغض النظر عن القيود «الدراكونية» التي تطالب بها هيئة المحكمة بلا داعٍ، فهل يتحرك «مجلس الشعب» ليقوم بواجبه التشريعي في توضيح الأمور بجلاء حتى لا «يُضطر» القضاءُ إلى اللجوء إلى (المادة الثانية) مباشرة، وحتى يعرف الناس في مصر، ويعرف المجتمع الدولي، رؤوسَهم من أقدمهم في معضلة «الحرية الدينية على الطريقة الشيزوفرانية المصرية»؟وأليس من الأفضل أن ترفع الدولة يدها تماما عن موضوع ديانة المواطنين ولا تذكرها في بطاقة الهوية، أو في أي وثيقة رسمية أخري، بخلاف «شهادة الميلاد»؟ ولعلنا لا نتمحك في «الآثار القانونية» لمعرفة الديانة، فحتى أوائل القرن العشرين لم تكن هناك «بطاقة هوية» ولا حتى «مصلحة أحوال مدنية»، ومع ذلك لم يكن أحد يشتكي من ذلك!
***ختاما: نعرف أن قضية «حرية العقيدة» في حد ذاتها لا تحتل الموقع الأول على قائمة اهتمامات سكان بر مصر الغارقين في المشاكل، لكنها جزء من مجموعة أوسع من الحريات والحقوق والمطالب التائهة أو الضائعة. ولذلك، وبهذه المناسبة: هل للقيادة السياسية ـ جازاها الله كل خير ـ أن تتحرك، قبل كل شيء، لتوضح لنا وللعالم «هوية» نظام الحكم في مصر بالضبط؟ وهل هي «مدنية ثيوقراطية» أم «ملوخية بالمهلبية»؟
guindy@gmail.com
No comments:
Post a Comment